تأتي بالتزامن مع اقتراب اختتام أعمال مؤتمر الحوار وفي ظل انقسامات حادَّسسة ومواجهات عنف طائفية تشهدها الجبهة الداخلية وتوتُّر في علاقة اليمن بمحيطه الإقليمي..
انتفاضة الحضارم
لو لم تكن حضرموت لتفهَّمنا معنى أن تثور ثائرتها وتنتفض لسقوط أحد كبار مشائخها, وهي التي تجاوزت منذ قرون مفهوم "القبيلة" و "الشيخ" الذي في حقيقة الأمر لم يعد يمثِّل فيها وزناً مهماً ويتمتع بمكانة رمزية تميزه عن الآخرين مثلما هو الحال في مناطق قبلية أخرى خصوصاً في الشمال.. اللهم إلا على اعتباره بمثابة مصلح اجتماعي أوصاحب علمٍ وحُجة في الدين, أو شيخ طريقة صوفية ذات حضور في حضرموت.
ولأنها حضرموت فلا يمكن تقبُّل أو استصاغة أن تغدو رأس حربة المواجهة المضادة لمشروع التغيير والانتقال إلى اليمن الجديد, الذي طالما حلم به أبناء حضرموت أكثر من غيرهم باعتبارهم كانوا ومازالوا الأشد ميلاً للنظام والاستقرار والأكثر توقاً للدولة المدنية وحكم القانون. مع التأكيد على احترام مطالب أبناء المحافظة في الاستفادة من ثرواتها وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في إدارة وبناء مشروع اليمن الجديد.
$1- لقد اندلعت بموازاة الكفاح ضد الاستعمار البريطاني اشتباكات عنيفة بين جبهة التحرير والجبهة القومية عقب ثورة 14 اكتوبر وبعد الاستقلال, وظلت حضرموت بعيدة نسبياً عن مثلث الصراع, بل لا نجافي الحقيقة إن قلنا أنها تباطأت في حسم خياراتها مع أو ضد الثورة لطرد المستعمر البريطاني من أرض الجنوب.
$1- وعندما وقعت أحداث يناير 86 بين فصيلي ما كان يعرف بـ " الزمرة" و "الطغمة" نأت حضرموت بنفسها عن الانجرار والانغماس في مسلسل التصفيات الدموية الدائرة بين الرفاق.
$1- خلال حرب صيف 94 مثلّت حضرموت بوابة العبور الوحدوي الآمن حيث سقطت جبهة حضرموت سريعاً وبلا قتال؛ الأمر الذي يسَّر حسم المواجهات لصالح "قوات الشرعية" واندحار قوى ورموز ما عرف بـ "الانفصال".
$1- تأخرت حضرموت في اللحاق بركب الحراك الجنوبي وإن كان كبار قادته هم في الغالب من أبنائها, وسانده في الغالب التجار الحضارمة, غير أن ثمة رغبة وميلاً بدا واضحين لدى أبناء حضرموت للدفع بفعاليات وبرامج الحراك إنما في مناطق أخرى خارج حضرموت كعدن ولحج وأبين والضالع.
$1- بعد قيام "ثورة الربيع العربي" في اليمن بقيت حضرموت على خلافٍ مع التغيير, حتى أن البعض يعتبر حضرموت ما تزال تتبع وتدار بواسطة النظام العائلي السابق.
$1- المحافظة شهدت مجازر دموية مروِّعة ناجمة عن سلسلة اغتيالات وهجمات إرهابية مدمرة راح ضحيتها عشرات القادة العسكريين والمدنيين من أبناء حضرموت, لكنها لم تحرك ساكناً حيال تلك الأعمال الإرهابية شبه اليومية التي تشهدها المحافظة.
فما سّر هذه الهبـــَّـة الحضرمية المتأخرة انتقاماً لمقتل شيخ قبائل حضرموت المقدم "بن حبريش" وفي هذه التوقيت بالذات؟ ولماذا هذا التحسُّس الحاد تجاه أي خطأ تقع فيه الأجهزة الأمنية, كما حدث مع الشيخ بن حبريش, بينما يتم غضّ البصر والبصيرة عن فرق الموت الجوَّالة في أنحاء حضرموت دونما هـــبـَّـات مماثلة أو حتى مجرد إنكار مثل تلك الجرائم الإرهابية التي تعد جرائم حرب ضد الإنسانية؟
هبَّات افشال الحوار
لا يمكن بحال فصل ما يطفو من منغصِّات على المشهد الراهن, سواءً في حضرموت أو صنعاء وصعدة, عن سياقات تعقيد الحل الشامل والدائم لمجمل القضايا الوطنية والذي تلوح بوادره ماثلة في لحظة إتمام وإنجاح مؤتمر الحوار الوطني الذي يعدُّ مجرد اختتامه عامل تثبيط وإحباط لجهود ومحاولات إفشال الحوار وإكمال الانتقال السلمي للسلطة في اليمن.
وإذ يبدو تيار الانفصال مصمماً على إقفال أي مخارج وطنية وحدوية قابلة للتحقق والحياة يحرص على كسب معركة حضرموت التي يخوضها في مواجهة القوى السياسية الوحدوية مجتمعة ومنضوية تحت عنوان الفيدرالية متعددة الأقاليم- يأتي الإقليم الشرقي المعلن عنه في مقدمتها.
ومثلما يمكن تفسير كلام الرئيس السابق حول الجنوب عموماً وما يحصل حالياً في حضرموت على أنه إنما يُعد توتيراً غير مبرَّر لأجواء الحوار ومفاقمة مقصودة للأوضاع هناك, ومثله سارع نائبه الأسبق السيد علي سالم البيض إلى إلتقاط الفرصة لتعميم الهبَّة الشعبية في كل مناطق الجنوب.
الأمر ذاته بالنسبة لتجمع الإصلاح الذي ما فتئ يحرض على إنفاذ التغيير إلى حضرموت, كما يتردد وقوفه خلف "الدفع بالهبَّة الشعبية الوشيكة لأبناء المحافظة قصد إسقاط السلطة المحلية المحسوبة – في نظره- على النظام القديم.
وكأنما الإصلاح وصالح مجدداً يتبادلان الأدوار لترويض هادي وضبط عقارب وإيقاعات التغيير وتطويع طبيعة وإفرازات الوضع الراهن ومرحلة ما بعد الحوار لصالحهما- متحالفين ومنفردين- والتخطيط لإعادة إنتاج بواعث وعوامل تخليق ذات النظام.. وهذا واضح جلي في تأييد مؤتمر حضرموت للهبَّة الشعبية والتحاق عددٍ من كبار قيادات فرع الإصلاح بها.
تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية, التي ما انتصرت يوماً للوطن أو طالت أصبعاً لمستبدٍّ أو نافذ أو نخَّاس أو معربدٍ بأمن البلد واستقراره ووحدته بقدر ما نالت من سلمه وسيادته ومقدراته وطاولت أعناق وجماجم الشرفاء والأبرياء من أبنائه, هي الأخرى لن تتوانى عن توظيف مثل هذه الهبــَّة غير المنضبطة واللامسؤولة لحساب فكرة ومشروع إقامة إمارتها في الجنوب.. ولن يكون مستغرباً أن نرى رايات القاعدة وقد عانقت رايات الانفصال وعناصرها وأسلحتها تشكَّل نواة اللجان الشعبية- كما حصل في أبين- مستغلة حالة المزاج الشعبي المتذمر والفراغ الأمني نتيجة مغامرة السلطة بسحب الوحدات العسكرية والأمنية من كافة مدن المحافظة وتسليم اللجان الشعبية مهمة إدارة وحفظ الأمن فيها.
أصابع الخارج
بالرغم من مسارعة وتعاضد الموقف الإقليمي والدولي الداعم لمبادرة التسوية السياسية ومسار الحل السلمي في اليمن لكن على ما يبدو فإن جهود ومساعي السلطة الانتقالية لاستكمال عملية التغيير اصطدمت بإرادة ورغبة خارجية تفضَّل مآلات مغايرة للتغيير مرسومة المسارات والنتائج سلفاً. وشرعت منظومة الحكم التوافقي بوعي أو بدون وعي في اكتساب أعداء جدد من حيث راهنت على قوى إقليمية ودولية بعينها لضمان دعم وإنجاز التغيير.
ناصب النظام الجديد إيران العداء منذ الوهلة الأولى لسريان بنود المبادرة الخليجية استقواء بأمريكا والسعودية ونفوراً من الدور الإيراني الضارّ باستقرار ووحدة اليمن حيث تولت إيران دعم وتسليح الحوثيين في الشمال وتمويل الحراك الانفصالي في الجنوب.
ثم ما إن نشب الخلاف بين الإمارات العربية المتحدة والإخوان المسلمين في مصر وصولاً إلى إسقاط الجيش المصري لحكم الإخوان حتى كانت بعض القوى السياسية وعبر تصريحات قادتها وحملات وسائلها الإعلامية ضد دولة الإمارات وجيش مصر, وأخيراً السعودية, مصدر استعداءٍ واستهدافٍ جديد لليمن.
لهذا يبدو مألوفاً أن تتحدث المصادر عن دورٍ محتمل لإيران وحزب الله في دعم ومساندة الهبـــَّة الشعبية في الجنوب كواجهة لدعم حليفهم الاستراتيجي علي سالم البيض, وذلك لتخفيف وطأة المواجهة في دماج والحصار المضروب على الحوثيين من قبل إسلاميين ومليشيات قبلية في كتاف والبقع وعمران وحجة.
كما سنرى- لاشك- احتفاءً إعلامياً رسمياً في مصر بهبــَّة الحضارم يتواءم وكرم استضافة القيادات الجنوبية وقناة عدن لايف "الانفصالية", ويتناغم مع الغائية والمشيئة السعودية- تحديداً- في اليمن.
السعودية وإن توارت خلف مبادرة التسوية وإصلاح ذات بين اليمنيين لكنها أكثر اللاعبين الإقليميين نفوذاً وتأثيراً وزعزعة للأوضاع في اليمن. وللتدليل على ذلك نرجئ القارئ الكريم إلى عقد مقارنة بين موقف المغتربين اليمنيين في السعودية- وأبناء حضرموت خاصة- من الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيل نظام صالح في مطلع العام 2011م وبين النشاط التحريضي الملحوظ للتجار الحضارم وتدفق الأموال الممولة لفعاليات الهبة الحضرمية.
السعودية التي لم تتورع عن إنشاء ما يسمى بـ "الجيش الحضرمي" قبل بضع سنوات, غداة نشوب خلاف بينها وبين الرئيس السابق, تبدو مصممة على ترويض الرئيس هادي بل وتدجين القرار الوطني وإلجامه إلى أخمص سياسة المملكة..
وإذا ما صحت التقارير الدولية المبشِّرة باحتياطات نفطية وغازية هائلة في المنطقة الشمالية المحاذية للأراضي السعودية فإن هبَّة حضرموت أوضح رسالة سعودية للرئيس هادي, ليس فقط لإرغامه على تجديد معاهدة الأراضي بين اليمن والسعودية بل وربما التخلي عن مناطق يمنية جديدة للعاهلة الشقيقة! وكذا التزام عدم التنقيب عن النفط في مناطق الشمال.. في مقايضة صريحة وحازمة مؤداها ونصها: نفط الجوف أو إقليم ونفط حضرموت!
أول الانفصال هــــبــَّـة!
يحاول تيار الانفصال مجاراة الهبَّة الشعبية الحضرمية ومحاولة تجييرها ومجمل التطورات الحاصلة في الجنوب لصالحه, على غرار لحاقه شكلياً باللجان الشعبية في أبين وقبلها بالثورة الشبابية السلمية 2011م.
قوى سياسية حزبية تعلن مباركتها الهبَّة ويتبارى وينبري بعض قادتها منافحاً عنها متبرعاً لمجهودها الشعبي وجهود المحافظة على استمراريتها وزخمها وإتيانها أُكُلها.
النظام لفرط ضعفه يكاد أن يلتحق بجوقة المشجعين مساوماً وملاطفاً عُتاة الانتهازية وعتاولة الابتزاز؛ حتى إنه سارع إلى تلبية مطالب القائمين على الهبة معلناً موافقته سحب قوات الجيش والأمن من كافة المدن وإسناد وظيفة الأمن العام وحماية الشركات النفطية إلى حراسة محلية تلتزم الدولة بتوظيفهم!
الكل يدَّعي وصلاً بالهبَّة التي لا تقرّ فضلاً لأحد!
قد ينظر إلى الأمر أنه مجرد محاولة لإرباك مساعي الحراك الجنوبي المنادي بفك الارتباط, وذلك صحيح إلى حد ما.. وقد يعتبره البعض عملية تشويش مقصودة هدفها التأثير على سير ونتائج الحوار وإظهار مزيدٍ من ضعف وهوان السلطة القائمة, وذلك لا يبعد كثيراً عن الصحة..
وقد تمثل هذه الهَّبة مرحلة جديدة في مسيرة الحراك الجنوبي ومقدمة فعلية للاستقلال في ظل عملية التشظي النشطة وحالة القنوط والتيه الشعبي والتخبط والعجز الرسمي القائم.
لكن ليس ثمة جهة بمقدورها اليوم الاحتفاظ بزمام السيطرة في الجنوب, ولا أحد بإمكانه التنبؤ بمآلات الوضع هناك فيما إذا حدث الانفصال..
ذلك أن الكتل البشرية الكبيرة تذيب الهويَّات الجهوية والنزعات الطائفية والعرقية, ولنا في الصين والهند وأمريكا وحتى إيران والسعودية ومصر خير مثال.
بينما بروز وتعدد الدويلات على أساس صراع الهوية والمصالح الذاتية الضيقة لا يؤسس لقيام أمة عظيمة ذات شأن وحضارة بل يقود إلى مزيد من التفكك والشرذمة والاحتراب, لا سيما حال اتكائها إلى مخزون من الثروات الطبيعية النفطية وشيكة النضوب في مقابل افتقارها لمقومات الدينامية والتطور والبقاء. ولنا في حال الشعوب والأنظمة العربية الراهنة أعظم عظة, وفي ما يجري من حرب زعامات في جنوب السودان- المنفصل حديثاً عن الوطن الأم- أبلغ عبرة وآية!
المقالات الاقدم:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
- خطوط التماس في باب المندب - 2023/12/11
- الحرب الروسية الأوكرانية تصب الزيت على نار الأزمة الغذائية في اليمن - 2022/03/02
- ما تداعيات التحركات الأمريكية لحسم الحرب في اليمن؟ - 2021/10/04
- تقرير استخباراتي أمريكي: السعودية تريد الخروج من اليمن وستقدم تنازلات للحوثيين - 2020/11/26
- "اقتصاد طوائف" يتشكل في اليمن : تقسيم العملة والثروات - 2020/07/21
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- منظمة الصحة العالمية : 10 آلاف قتيل و60 ألف جريح حصيلة حرب اليمن - 2018/12/10 - قرأ 127132 مرُة
- اليمن .. معركة جديدة بين قوات هادي والحراك الجنوبي في شبوة - 2019/01/09 - قرأ 26819 مرُة
- غريفيث لمجلس الأمن: هناك تقدماً في تنفيذ اتفاق استوكهولم رغم الصعوبات - 2019/01/09 - قرأ 26114 مرُة
- تبادل عشرات الأسرى بين إحدى فصائل المقاومة اليمنية والحوثيين في تعز - 2016/06/01 - قرأ 20500 مرُة
- المغرب يكشف عن "تغير"مشاركته في التحالف - 2019/01/24 - قرأ 17788 مرُة